...

4 views

رواية ‏جزيرة ‏الأحلام


‎أحد الأيام في ضيعة وادي الحسون، كان الناس يعيشون في أُلفةٍ ومحبة. وكان كل شخص يعمل ويكد فالرجال تخرج منذ الصباح للعمل وجمع قوت العائلة وجني الأموال، والنساء كانت تهتم في بيوتهم وعندما بنتهون يجتمعون في منزل إحداهن. فكان الإتفاق بينهن أن في كل يوم يجتمعون في منزل ويصنعون أشهى الأكلات، فأحياناً يخبزون،  وأحياناً يصنعون الحلوى واخرى يحضرون الأكلات الشهية لأزواجهن وعائلاتهن.
وكان لهذه البلدة كما كل بلدات وجهاء فمنهم المختار سمير الهيبة أبو عدي، وتاجر القماش ناصر ابو الخير أبو جميل بالإضافة للأستاذ عمر وأخوه التاجر الكبير سامر الشرقاوي المعروف بكل الضيع. لكن كان هناك في الضيعة شخص يعتبر نفسه أكبر من أهل الضيعة على الرغم من أنه ليس من الأغنياء لكن بسبب مركزه كمهندس مدني وموظف في الدولة، المهندس رجا العمران.
وكان للتاجر ناصر ابو الخير ثلاث بنات وكانت زوجته حاملاً وكان ينذر النذر تلو الآخر أينما جلس اذا ولدت زوجته صبياً سيقيم الأفراح والليالي الملاح في الضيعة. وكانوا الوجهاء والناس جميعاً يدعون له بأن تقوم زوجته بالسلامة وتضع له الولد الذي يتمناه. وفعلاً ومع مرور الأيام وانطواء الأسابيع وانقضاء الشهور ولدت سهى وأنجبت له جميل ففرح أبا جميل وبدء بتنفيذ النذر فذبح الخواريف ووزع الهدايا على الناس وأقام العزائم وضل على ذلك لمدة ثلاثة أيام. وفي اليوم الثالث، وبينما الناس تحتفل مع أبو جميل قدم المهندس رجا وعائلته الى الضيعة، وسأل المهندس أحد الأشخاص عن سبب الفرح فأخبره بقدوم جميل أبو الخير إبن السيد ناصر أبو الخير فهز برأسه وتابع الى منزله فوضع أغراضه ونزل الى الساحة وهنأ ابو جميل بالولد. وكان للمهندس ولد يدعى رامي وزوجته ريما كانت من النساء الجميلات جداً. وبعد ثلاث سنوات، يدخل المهندس منزله في المدينة فيرى الضحكة تنرسم على وجه زوجته فسألها: لماذا هذه الإبتسامات؟ فقالت له: ألا تحب أن تراني سعيدة؟ فقال: بالطبع بلا، لكن ما السبب؟ فاليوم أراكِ أكثر سعادة. فقالت: نعم، صدقت فاليوم كنت عند الطبيب فبشرني بقدوم طفلٌ جديد لعائلتنا، ففرح رجا وزاد دلاله لزوجته. وأكملا حياتهما كما كانا يعيشان فيقضيا الأسبوع كله في المدينة، ويذهبون الى الضيعة في آخر الأسبوع فالأيام التي يعطل بها رجا. ولكن لم يكنا إجتماعيين فقط يزورون أهل الضيعة في الواجبات لكنهم لا يجالسوهم ولا يزوروهم. وكان رجا يرفض كل الدعاوي من المختار والوجهاء للجلوس معهم، وكانت ريما تمنع ابنها رامي من اللعب ومخالطة أولاد الحارة على قولها أنهم يعلمونه السوء. لكن رامي كان عنيداً ويحب الضيعة فلا يسمع لأمه وينزل الى الساحة ويلعب مع الأولاد وعندما يعود يعاقبانه. وبعد مرور شهور، وبينما كان رجا بوظيفته تبدأ ريما بالصراخ. وضلت تصرخ الى أن سمعتها إحدى الجارات فركضت وأصبحت تطرق الباب لكن ريما لا تستطيع الوصول الى الباب. فهرعت جارتها ونادت الناطور فقام بخلع الباب فدخلوا اليها وعلمت الجارة أنها على وشك الولادة، فاتصلوا بالإسعاف فنقلوها الى المستشفى. وعندما عاد رجا من عمله فوجد الباب مخلوع وأبنه رامي جالسٌ وهو يبكي. فسأله: ماذا جرى؟ فقال رامي: لا أعلم أتيت من المدرسة ووجدت الباب مخلوعاً وأمي ليست هنا. وأثناءها كانت الجارة تصل الى منزلها، فأخبرت رجا بأن زوجته على وشك الولادة وأخبرته بما حدث. فانطلق رجا برفقة إبنه إلى المستشفى والتقى أحد الممرضات فسألها عن غرفة زوجته السيدة ريما العمران فأجابته فذهب مسرعاً ورآها تصرخ من الألم فوقف يدعي الله بأن يخلصها على خير، وبعد مرور ساعة أتى الخبر الذي ينتضرانه فخرجت الممرضة وقالت لرجا : مبروك أتتك بنت مثل القمر. ففرح رجا ودخل الى زوجته وكانت الفرحة تملأ قلبيهما بقدوم لارا وهو الإسم الذي اختراه لإبنتهما.
وفي اليوم الثاني خرجت ريما من المستشفى وذهبت برفقة زوجها وإبنتها الى المنزل. وبعد أيام بدأ زملاء زوجها واصدقائه يزورونه ويهنئونه بالملود الجديد. وبسبب الولادة غاب رجا وعائلته عن الضيعة لمدة شهرين. وأثناء غيابهم استغرب اهل الضيعة عن هذا الغياب فبأحد جلسات كبار الضيعة سأل سامر الشرقاوي وقال: يا جماعة الا ترون أن المهندس رجا لم يأتي الى الضيعة منذ فترة؟ فقال المختار: نعم، فعلاً لم يأتي منذ مدة. فقال أبو جميل وما رأيكم أن نرسل أحداً الى المدينة للإطمئنان عليه؟ فقال الأستاذ عمر: أنا من رأيي أن لا نسأل فهو عندما يأتي إلى الضيعة لا يتكلم مع أحد ولا يزورنا إلا بالواجبات، فلماذا نهتم نحن به وهو لا يريد رفقتنا؟ فاقتنعوا برأيه وقرروا أن لا يسألوا. وبعد شهرين أتى رجا وعائلته إلى الضيعة وعلموا أهل الضيعة بقدوم إبنة له. فجمعوا بعضهم وزاروه وهنأوه بقدوم إبنته.
مرت السنوات وطويت صفحات من الأيام، وكان جميل يتابع تحصيله العلمي بمدرسة وادي الحسون النموذجية. أما لارا فكانت تدرس بمدرسة أجيال المستقبل بالمدينة. وفي أحد الأيام، في أثناء وجود رجا وعائلته في الضيعة. وبينما كانت لارا تلعب في حديقة منزلهم الواقع في وسط الضيعة وقعت وبدأت تبكي فرآها جميل فقرر مساعدتها، فأخذها الى مستوصف الضيعة القريب من منزلها وطلب من الطبيب هناك أن يداوي جرحها ففعل. فخرجوا من المستوصف فنظر إليها وقال: الله ما أجمل عينيكِ. فابتسمت ابتيامة بريئة وذهبت إلى منزلها، فابتدأت قصة حبهما. فكانت هي تنتضر اليوم الذي ستذهب برفقة أهلها إلى الضيعة لتراه، وكان جميل أيضاً ينتضر قدومها بفارغ الصبر. فكبرا وكبرت معهم قصة حبهم. لكن المشكلة أن جميل دائماً ما كان يسمع من أهله وأهل الضيعة عن تعالي رجا عليهم.
وعندما كانا بربيع العمر في سن المراهقة، كانا يجلسان سوياً بحديقة الضيعة فرأتهم ريما والدة لارا فنادتها وأخذتها. وعندما وصلوا المنزل أنبتها وأمرتها بأن لا تخرج من المنزل من جديد. فسمعهم رجا وقال: ما بك يا إمرأة؟ لماذا أسمع صراخك على البنت؟ فقالت له: إبنتك كانت تجلس مع ذلك الصبي ابن تاجر القماش. فغضب واشتدت فرائسه فذهب الى أبو جميل وقال: إسمع يا أبا جميل. فرد عليه: أهلاً بالمهندس، تفضل. فقال رجا: لم آتي للزيارة بل أتيت لأحذرك من أن تبعد إبنك عن إبنتي وإلا سأتصرف. فغضب أبو جميل وقال: إسمع أيها المهندس لا تظن أن بعملك بالحكومة وحصولك على شهادة الهندسة يسمح لك أن تطاول علينا، إذهب ولا تهدد فوالله لو حدث شيئاً لإبني أنت لن تكون راضياً. فعندما رأى رجا غضبه وسمع كلامه جمع نفسه وخرج من عنده. فذهب إلى المنزل ومنع وزوجته لارا من الخروج من المنزل. ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخبار لارا عن جميل.  لكن في منزل رجا كانت هناك إمرأة تأتي لخدمتهم في أيام إقامتهم بالضيعة. فدخلت غرفة لارا لتنضفها فرأتها تبكي فقالت: ما بك يا إبنتي؟ لماذا تبكين؟ فقالت لارا: أهلي منعوني من الخروج من المنزل. فقالت أم عبد: لا تحزني يا إبنتي فانتي تلعبين بحديقة منزلكم فلماذا البكاء. فما كان أمام لارا إلا أن تخبرها بالحقيقة، فأخبرتها حقيقة حبها هي و جميل وأنها لا اعلم شيء عنه منذ منعاها أهلها من الخروج. وبعد سماع القصة قررت أم عبد أن تساعدها فأصبحت تجلب مكاتيب من جميل وتعطيه رسائل لارا. فأكملوا قصة حبهم بالمراسيل.
وفي أحد الأيام أرسل جميل لها لوحة بصورتها ففرحت لارا. فهو كان رسام موهوب. اكتشف جميل موهبته وهو في المدرسة فأصبح ينميها ويطورها. وعندما علم والده بحرفته بالرسم فرش له غرفةً وجلب له كل ما يتعلق بالرسم. فأصبح جميل يرسم اللوحات لوحةٌ تلو الأخرى.
كبر جميل وأصبح رساماً لا يشق له غبار فتخرج من الثانوية العامة ودخل الجامعة وطور موهبته. أما لارا تخرجت أيضاً وأصبحت تدرس ادارة الأعمال. وكانوا يلتقون مع بعضهم في الجامعة. وفي أحد الأيام بينما كانوا يتمشون في إحدى حدائق المدينة. قالت له: أنا لم أعد أحتمل، أريد أن أكون معك فاذهب واطلبني من أهلي. فقال لها: كيف سأطلبك وأنا لا يوجد عندي منزل ونحن لا زلنا ندرس وأنت تعرفين والداكِ لن يقبلوا. فقالت: أنت لا تحبني. فقال: بعد كل هذه السنوات تقولين لا أحبك؟ فقالت: نعم، لأنك حتى لا تحاول أن تطلبني. لكن إسمع عليك أخذ القرار حالاً، إما أن تطلبني من أهلي وإما أن نترك بعض. فقال: اعذريني، لكن لا أستطيع أن أطلبك قبل أن ارى نفسي قادراً على ذلك. فافترقا وذهب كل واحد منهم في ناحية. فدأت الدنيا تسود في عيونهم. فكانت لارا تجلس لساعات في غرفتها تبكي، وكان جميل يجلس أيضاً والهموم تثقل كاهله.
الى أن أتى يومٌ صادف جميل أحد رجال الأعمال الخليجيين فتعرف عليه وهو في حفل أقامه رئيس الجامعة لطلابه. وكان رئيس الجامعة أعجب في الماضي بإحدى لوحات جميل فقدمها له. فوقف هذا الرجل أمام اللوحة وقال للرئيس: ما أجمل هذه اللوحة! أجلبتها من أوروبا؟ فضحك الرئيس وقال: لا بل هذه من رسم أحد طلابي. فقال الرجل الأعمال: أهو هنا؟ فقال الرئيس: نعم وناداه. فعرف جميل بالرجل فسأله الشيخ وضاح (الرجل الأعمال): ألديك مثلها؟ فقال جميل: نعم يا سيدي لدي الكثير من اللوحات. فاتفقوا أن يذهب الشيخ وضاح إلى وادي الحسون ليرى الرسمات. وبالفعل عند وصولهم عرفه جميل بأهله وعرفهم به. فأقاموا له مأدبة غداء إجتمع عليها أهل الضيعة. وبعد الإنتهاء من الغداء أخذ جميل الشيخ الى غرفة اللوحات فرآها الشيخ وقرر أن يشتري ثلاثة منها وقدم له جميل واحدة هدية. فوعده الشيخ وضاح بأن يقيم له معرضاً. وبعد عدة أيام، اتصل الشيخ وضاح بجميل وقال له لاقيني في قاعة الفندق الذي أقيم فيه. فذهب جميل إليه فقال الشيخ: بعد أسبوع سأقيم لك معرضاً هنا، فاذهب واجلب جمبع لوحاتك. ففرح جميل وذهب إلى الضيعة وجلب اللوحات وأُقيم المعرض فأتى اليه الكثير من رجال الأعمال والأغنياء في البلد واشتروا لوحاته. فأصبح جميل فناناً مشهور في كل البلد وأصبح صيته يسبقه. فأخذ يجني المال من لوحاته وبنى منزل أحلامه وأصبح يعيش برفاهية. ثم، بعد مرور سنة وبضعة شهور اتصل جميل بلارا فلم ترد. فما كان أمامه إلا أن يستعين بصديقة مستركة بينهما فقامت جوسلين بدعوة لارا إلى منزلها. فأتت، وبينما كانت الصديقتين يتكلمان ويضحكان دخل جميل، فهبت لارا للهروج فمسكها جميل على يدها وقال: إسمعيني! أريد أن أتحدث معك في أمر ولكن ليس هنا. فقالت: لا يوجد كلام بيننا، فانتهى الكلام منذ سنين. فقال: لا لم ينتهي بل اليوم سيبدأ، أرجوكِ أعطيني فرصةٌ واحدة،فوافقت. فذهبوا ليتمشوا بجانب البحر، وبعد أن تكلما وعاتبا بعضهم أوقفها جميل وركع وفتح لها علبة يوجد فيها محبس وقال: أتقبلين بي زوجاً لك؟ فانهمرت الدموع من عينيها من شدّة الفرح وقالت: نعم، أكيد أقبل. فقال لها: إذاً إذهبي وأخبري أهلك أن غداً سأتقدم لخطبتك. ففرحت ثم قالت: ألم تعد تخاف من أن يرفضوك؟ فابتسم وقال: طبعاً لا، فالآن أهلك كما كل البلد يعرفونني ويعرفون من أنا. ثم قال: الآن تعالي معي فحضرت لكِ مفاجأة. فأخذها إلى الجامعة وكان قد وصى أحد محلات الزهور بفرش الأرض بالورود على شكل قلبين. فوقفا عليهم ورفاقهم حملوا اللوحات الاي رسمها عن قصة حبهم. ففرحت لارا بالمفاجأة وعانقته وقالت له: كظ أنا أحبك. فقال: أما أنا فإني مغرمٌ متيمٌ بهواك. وبعد انقضاء الساعات، عادوا الى منازلهم. فلارا ذهبت الى منزلها، أما جميل فذهب إلى الضيعة واجتمع بأهله وطلب من والده أن يجمع كبار الضيعة للذهاب في اليوم التالي ليطلب يد لارا. فقال أبو جميل: لارا! إبنة ذلك المتعجرف، لا لن أذهب. فقال جميل: أبي أنا أحبها وأريدها، إما أن تذهب معي وإما لن ترى وجهي بعد اليوم؟ فقال: يا ولدي أنا تهمني سعادتك لكن لن يعطيك صدقني. فقال جميل: يا والدي اذا رفض فلك مني وعد أن أرد اعتبارك أمام جميع الناس، لكن طاوعني أرجوك. فوافق أبو جميل ودار على مبار الضيعة وأخبرهم بأن غداً خطوبة جميل. وفي اليوم التالي أتى رجا وعائلته إلى الضيعة، وبعد وصولهم وأثناؤ قيامهم بتناول الغداء، قالت لارا: أبي اليوم سيأتي أحدهم ليطلب يدي فآمل منكم أن تجهزوا أنفسكم. فقال رجا: ومن العريس؟ فقالت وهي خائفة من رفضه: اليوم ستعلم. فقال لها: لا! أريد أن أعرف الآن. فقالت: يا أبي لماذا أنت مستعجل، بضع  ساعات وستعلم. فقال: لا لن أستقبل أحداً قبل أن أعرف. فقالت والدموع تغمر عينيها: جميل! نعم جميل سيطلب يدي اليوم. فقال: جميل أبو الخير الرسام العظيم؟ فقالت بعد أن ميحت دموعها: نعم جميل إبن ضيعتنا. فقالت أمها ريما: ونعم الإختيار. ففرحت لارا بموافقة والديها وذهبت إلى غرفتها تجهز نفسها. مرت ساعات فأتوا أهل الضيعة على رأسهم المختار والوجهاء ويتوسطهم أبو جميل والعريس جميل، فاستقبلهم المهندس رجا بأحر إستقبال. وعندما كانوا يجليون وقف أبو جميل وقال: حضرة المهندس أتينا طالبين فنأمل أن لا نعود خائبين. فقال رجا: لا والله ما رددت طلبكم مهما كان. فقال أبو جميل: إننا أتينا لنطلب يد إبنتك لارا لإبني جميل. فقال: الشرف لي أن يكون صهري الرسام العظيم جميل أبو الخير. فأقيمت في الضيعة حفلة على شرف العروسين فدبكوا الناس ورقصوا وضل الفرح يعم قلوب الحبيبين.
مرت شهور على الخطبة فقررا أن يدخلا القفص الذهبي، وبعدها أقيم حفل زفافهما في الضيعة وكانت الفرحة تغمر قلوب أهلهما بسعادتهما. فعاشا بثبات ونبات وفرح وسرور.

الكاتب وليد بحمد